في القرن السابع عشر، تحديدًا في هولندا، شهد العالم أول فقاعة مالية مسجلة في التاريخ، عُرفت بـ”فقاعة التوليب”. تحولت زهرة جميلة إلى أداة مضاربة، وانتهى الأمر بانهيار مفاجئ ألحق الضرر بالعديد من المستثمرين. وفي سياق متصل، قدمت قناة “العربية” مؤخرًا تقريرًا قصيرًا يقارن بين فقاعة التوليب وصعود البيتكوين، مع التأكيد على أن المقارنة لا تعني بالضرورة أن البيتكوين هو فقاعة، بل محاولة لفهم أوجه التشابه والاختلاف بين الظاهرتين.
جذور الحكاية: كيف أصبحت زهرة التوليب رمزًا للفخامة؟
ظهرت زهرة التوليب لأول مرة في أوروبا في منتصف القرن السادس عشر، قادمة من الدولة العثمانية، وسرعان ما جذبت أنظار الطبقة الأرستقراطية الهولندية. كانت بتلاتها الزاهية والمتعددة الألوان تثير الدهشة، وأصبحت الزهرة رمزًا للمكانة الاجتماعية والجمال الفريد.
في بدايات القرن السابع عشر، أصبحت التوليب سلعة فاخرة تُمنح في الهدايا وتُزرع في حدائق النخبة. ومع زيادة الطلب، بدأت الأسعار في الارتفاع، ليس بناءً على قيمتها الجمالية فقط، بل نتيجة التوقعات بزيادات مستقبلية في قيمتها السوقية.
بحلول عام 1636، تحوّل تداول زهرة التوليب من هواية الأرستقراطيين إلى سوق مضاربات مفتوح. بات الجميع، من التجار إلى الحرفيين، يشاركون في شراء عقود مستقبلية لبصيلات الزهرة، غالبًا دون حتى رؤيتها أو امتلاكها فعليًا.
في أوج الفقاعة، وصلت أسعار بعض أنواع التوليب النادرة إلى ما يعادل سعر منزل فخم في أمستردام. خرجت القيمة السوقية تمامًا عن المنطق الاقتصادي، وبدأ الناس يشترون فقط لأنهم اعتقدوا أن السعر سيرتفع غدًا، وليس لأن الزهرة تملك قيمة حقيقية تبرر هذه الأرقام.
في فبراير 1637، توقف المشترون فجأة عن الظهور في المزادات. انتشر الذعر، وتلاشت الثقة، وانهارت الأسعار خلال أيام قليلة. لم تعد البصيلات تجد من يشتريها حتى بأقل من ربع قيمتها السابقة. خسر آلاف الأشخاص مدخراتهم، وانهارت ثروات بالكامل.
رغم تعافي الاقتصاد الهولندي لاحقًا، تركت هذه التجربة أثرًا نفسيًا وثقافيًا عميقًا في الذاكرة الجماعية، وظلت تُستشهد بها كلما ظهر نوع جديد من “الجنون المالي”.
البيتكوين: توليب القرن الحادي والعشرين؟
اليوم، ومع بلوغ البيتكوين مستويات قياسية تجاوزت 120,000 دولار أميركي، تتجدد التساؤلات حول مدى ملاءمة مقارنة صعود البيتكوين بظاهرة فقاعة التوليب. لا شك أن البيتكوين يختلف في جوهره عن التوليب، إذ يحمل قيمة تقنية ثورية كونه نظامًا نقديًا لامركزيًا يعتمد على تقنية البلوكتشين، ويمنح المستخدمين تحكمًا مباشرًا في أموالهم بعيدًا عن الأنظمة المصرفية التقليدية.
ومع ذلك، فإن بعض السلوكيات النفسية والاستثمارية التي ترافق البيتكوين تحمل تشابهات مع ما حدث خلال فقاعة التوليب، فالكثير من المستثمرين يشترون البيتكوين بدافع الخوف من تفويت الفرصة أو الطمع في تحقيق أرباح سريعة، وليس دومًا بناءً على فهم عميق أو اقتناع بفلسفة العملات اللامركزية.
كما أن التقييمات العالية أحيانًا، والتي قد لا تستند إلى أساس اقتصادي متين، تذكر بما حدث عندما دفع الناس أموالًا طائلة مقابل بصيلات زهور لا تُنتج دخلًا أو قيمة اقتصادية مباشرة. ويزيد من هذا الوضع الضجيج الإعلامي الهائل المحيط بالبيتكوين، حيث تُروج الأخبار والتوقعات المتفائلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تمامًا كما كانت شائعات التوليب تنتشر بين الناس في الحانات والأسواق، ما يدفع المزيد من الأفراد إلى الشراء دون دراسة أو وعي كافٍ بالمخاطر المحتملة.
البيتكوين والتوليب: فرق القيمة الحقيقية
يكمن الفرق الحاسم بين فقاعة التوليب وصعود البيتكوين في وجود قيمة حقيقية تدعم الأخيرة، تتجاوز مجرد الرغبة في الامتلاك أو الوجاهة الاجتماعية. فزهرة التوليب، مهما بلغ جمالها، كانت في نهاية المطاف سلعة تجميلية لا تملك أثرًا اقتصاديًا أو وظيفيًا يتعدى مظهرها، ما جعل قيمتها السوقية قائمة فقط على المزاج العام والتضخم العاطفي.
في المقابل، يرتكز البيتكوين على بنية تكنولوجية متقدمة تمثل تحولًا جذريًا في مفهوم المال والملكية والنقل القيمي. فبفضل تقنية البلوكتشين، وهي قاعدة بيانات موزعة وغير قابلة للتزوير، بات بالإمكان تسجيل المعاملات بشكل شفاف وآمن دون الحاجة إلى وسيط مركزي، ما يفتح آفاقًا جديدة لإعادة تعريف النظام المالي العالمي.
البيتكوين لا يُمثل عملة رقمية فقط، بل يُجسد نموذجًا اقتصاديًا بديلًا قائمًا على اللامركزية والثقة الحسابية بدلًا من الثقة بالمؤسسات. وقد بدأ هذا النموذج في جذب اهتمام المؤسسات المالية الكبرى، وصناديق التحوط، وحتى البنوك المركزية، التي بات بعضها يعتبره أصلًا قابلًا للاحتفاظ في الميزانيات.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن البيتكوين، مثل أي تقنية جديدة، يمر بمراحل من الحماس المفرط تؤدي أحيانًا إلى تضخم قيمته السوقية بشكل يفوق الواقع الفعلي لاعتماده وانتشاره. فالابتكارات التكنولوجية الأكثر عمقًا تمر غالبًا بدورات من التقدير الزائد، تتبعها مراحل تصحيح، قبل أن تستقر في مكانتها ضمن النظام الاقتصادي العام. من هنا، فإن البيتكوين ليس بالضرورة مشابهًا لفقاعة التوليب بالمعنى الكلاسيكي، لكنه أيضًا لا يخلو من تقلبات السوق المرتبطة بتوقعات مفرطة، أو سلوك جماهيري غير عقلاني.
من دروس الماضي إلى رهانات الحاضر
تبقى فقاعة التوليب أكثر من مجرد حادثة اقتصادية طواها التاريخ، إذ تجسد طبيعة النفس البشرية حين تواجه إغراء الثروة السريعة والأمل في الثراء الفوري. هي مرآة تعكس كيف يمكن للعاطفة الجماعية أن تطغى على العقل، وأن يتحول الحماس إلى اندفاع غير محسوب.
ومع صعود البيتكوين، تُعاد صياغة هذا السيناريو في قالب عصري تقني، حيث تتشابك الرغبة في الربح مع الإيمان بثورة تكنولوجية قيد التشكّل.
لكن الدرس الأعمق الذي تمنحه لنا التوليب لا يكمن في الخوف من التكرار بقدر ما يتمثل في دعوة للتوازن: بين الحماس للمستقبل الرقمي، وبين ضرورة التقييم العقلاني لكل استثمار. فبينما تمثل البيتكوين تطورًا حقيقيًا في بنية المال والتعاملات، إلا أنها تبقى خاضعة لقوانين السوق، ومزاج المستثمرين، وتقلبات الثقة.
قد تكون البيتكوين أكثر من زهرة؛ إنها فكرة، وبنية، ونظام اقتصادي جديد، لكنها ليست محصّنة من التقلبات السعرية والانهيارات المفاجئة. وما يحكم الأسواق لم يتغير كثيرًا منذ القرن السابع عشر: الخوف، الطمع، الأمل، والمبالغة، والفرق الوحيد هو شكل السلعة.